(16)
إتجاه الجيش المصري نحو المديَنة والمأسسة والعسكرة
عاشت مصر منذ انقلاب يوليو 1952م وحتى 1981م دولة شمولية بوليسية عسكرية ، يقوم فيها الجيش بدور رئيس وأساس ـ كما سبق وأوضحنا ـ ومنذ عام 1981م سيتحول الجيش إلى منافس للدولة ، ولن تستطيع الدولة الشمولية البوليسية أن تعترض أو حتى تتبرم من منافسها الجديد ، الذي أصبحت مهمته الجديدة القتال والجاهزية والإنتاج ، أي الاقتصاد والإنتاج وإذا قامت الحرب فلا بأس ، وارتكنت استراتيجية الجيش لتحقيق مهمته وهدفه الجديدين على محورين أساسيين هما المديَنة والمأسسة .
وفي تلك الأثناء انطلقت الأبواق الإعلامية والتبريرية لتمهد لهذه الاستراتيجية كعهد الدول المتخلفة ، فمن قال بأن على الجيش أن يشارك في التنمية ، ومن قائل بأن الجيش عليه أن ينفق على نفسه من خلال كونه مؤسسة منتجة تصنف في بند المدخولات ، وتقل حصتها في بند النفقات والمصروفات إلى غير ذلك من التبريرات .
الفرع الأول : مديَنة الجيش في مصر :
يُقصد بالمديَنة في هذا السياق أن يتحول الجيش إلى الحياة المدنية ليقوم بدور فيها يحدده قياداته من حيث طبيعة الأعمال التي يؤديها وحجمها والتصرف في عوائدها ، والحقيقة أن هذه العملية قد بدأت بشكل تدرجي منتقلة من قطاع إلى آخر .
ولعل الجيش في مصر وهو بصدد تطبيق عملية المديَنة قد استعان بتجربة الستينيات من القرن العشرين فيما يتعلق بالمصانع الحربية والتي كان أشهرها مصنع 99 الحربي التابعة للهيئة العربية للتصنيع التابعة بدورها لجامعة الدول العربية ، والتي سرعان ما تم فضها للخلافات بين أعضائها من الدول العربية ، ولم يبق منها إلا المصنع المذكور ، وهذا ما يؤكد على أن القطاع الصناعي كان في مقدمة القطاعات التي بدأ بها الجيش في عملية المديَنة .
ومن ناحية أخرى يمكننا القول بأن الدولة الشمولية البوليسية العسكرية قد قررت أن تتنازل للجيش عن بعض مهامها من خلال عسكرة الكثير من المشاريع في قطاعات الاقتصاد المصري المختلفة ، ولم يلبث الجيش أن تغوّل في تلك القطاعات وقام بعسكرة ما يراه مربحاً ومجد إقتصادياً ، ولم تستطع الدولة بعد ذلك ولا النظام السياسي أن يوقفا تغوّل الجيش ، ما جعل الاقتصاد المصري بالكامل تحت إمرة وتصرف ورحمة الجيش الذي أسس اقتصاداً موازياً لاقتصاد الدولة المصرية المنهك والمهترئ .
ونستنتج مما تقدم أن الدولة الشمولية البوليسية العسكرية قد قررت عن طريق نظامها السياسي أن تبحث عن دور جديد للجيش بعد اتفاق السلام مع إسرائيل ، يدفع به إلى الحياة المدنية ، ليوظف ويستثمر طاقاته في قطاعات يمكن أن تعود بالنفع على المجتمع ، في سياق رغبة تلك الدولة في ذر الرماد في العيون ، وإرضاء الشعب المصري ببعض الإنجازات الإنمائية ، التي يحلم بها منذ انقلاب يوليو 1952م .
الفرع الثاني : الجيش وعسكرة قطاعات الدولة :
والجيش من جانبه تقبل قرار الدولة ، ولم يعتبره انتقاصاً من كرامته كجيش محترف مقاتل ، ولم ينظر إليه على أنه خطة ماكرة لإقصاء الجيش عن مهمته في الدفاع عن الأمن القومي للبلاد ، وانخرط بقوته وقدراته التي لا توازيها أية قدرات أخرى في الدولة في الحياة المدنية ، وتغوّل في قطاعات الدولة وقطاعات الاقتصاد المختلفة ، وقام بعسكرة تلك القطاعات ، وجعلها تابعة له وفصلها عن الدولة تماماً ، وهذه المبادرة من الجيش هي منطقية وتتوافق مع رغبات وأهداف قيادات الجيش في تلك الظروف التاريخية التي تشهدها مصر والمنطقة العربية والعالم أجمع .
ما تقدم ينتهي بنا إلى القول بأن الدولة كانت تبحث عن مديَنة الجيش لاحتواء وتطويع طاقاته وقدراته ، في حين كان الجيش يقوم بعسكرة قطاعات الدولة وقطاعات اقتصادها ، وكأنه سباق بين الدولة والجيش ، إلا أنه لم يتحول إلى صراع بفضل النظام السياسي المتواطئ والمتحالف مع الجيش ، ولأن الأخير قد فرض هيمنته ونفوذه على الدولة والنظام السياسي معاً .
الفرع الثالث : مأسسة الجيش في مصر :
عندما أصبح الجيش المصري كياناً فاعلاً في الحياة المدنية بكل جوانبها الاقتصادية والصحية والعلمية والعمرانية وحتى الإتصالات والمواصلات ، كان عليه أن يتحول إلى الهيكلية التنظيمية ، فيصيغ هيكلاً تنظيمياً يحدد العلاقة بين كياناته ومنشآته الضخمة والكثيرة العسكري منها والمدني ، وهنا تحول الجيش إلى مؤسسة عملاقة شديدة الدقة واسعة التنوع ، يمثل الجيش جزءً منها .
وردد الكثيرون في كل الأوساط ، وبصفة خاصة الإعلامية والأكاديمية بسذاجة وضحالة وبفخر واعتزاز مصطلح “المؤسسة العسكرية”على أنه مصطلح مبتكر يدل على ثقافة القائل به ، ويعظّم القوات المسلحة المصرية ويمجّدها ، علماً بأن هذا المصطلح لا وجود له على الإطلاق في الدول الديمقراطية التي تتعامل مع الجيش على أنه قوات محترفة مقاتلة على الحدود فقط ، يتبع إحدى الوحدات الإدارية في الدولة ، وهي وزارة الدفاع ، حتى الصناعات العسكرية أو الحربية في كل دول العالم ذات الحكم الرشيد إما أنها تتبع وزارة خاصة أو تتبع وزارة الصناعة ، وتقسم إلى قطاعين : قطاع مدني وقطاع عسكري أو حربي .
وبنهاية عقد الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن العشرين كان الجيش المصري قد تحول فعلياً وواقعياً إلى مؤسسة ضخمة تجمع بين منشآت متخصصة في كافة شئون الحياة وكل قطاعات الاقتصاد ، يديرها ويستفيد منها قيادات الجيش ، ولها اتصالاتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية المستقلة تماماً ، وكل ما يتعلق بهذه المؤسسة يدخل في نطاق الأسرار العسكرية بالغة السرية ، بل هي من أهم محاذير الأمن القومي .
لم يكن أمام الدولة المصرية الشمولية العسكرية بكل مؤسساتها إلا أن تخضع راغمة وليست راغبة للمؤسسة العسكرية ، بل وتسترضيها ، إذا لم يكن للاستفادة منها ، فلاتقاء ما يمكن أن تجره العلاقة معها من قلاقل .
والنظام السياسي هو الآخر بمؤسستيه : التشريع حيث لا تشريع إلا وفق الحاكم المستبد ، والتنفيذ الذي يتم تحت إمرة ذلك الحاكم نفسه ، والقوى السياسية التي لا وجود لها ، كانت جميعاً في قبضة المؤسسة العسكرية إما بشكل مباشر ، وإما بشكل غير مباشر ، عندئذ تحولت المؤسسة العسكرية إلى مؤسسة تمثل الدولة المصرية بكافة أنظمتها أهم وحداتها .

