ثانياً : منطلقات الدولة المدنية الرشيدة :
ثمة عدة منطلقات تتتابع ثم تلتقي فتكون الدولة الرشيدة التي تمثل ثمرة القيم ونتاج المبادئ والمثل :
أ ـ منطلق نموذج الإسلام في الممارسة السياسية [ دولة الرسول الكريم والخلفاء الراشدين ] : الدولة الرشيدة التي نحن بصدد الحديث عنها تجد منطلقها الأول في أول وأشهر وأمثل نموذج قدّمه الإسلام للممارسة السياسية ، وهو دولة الرسول الكريم والخلفاء الراشدين ، وهذا النموذج كان ولا يزال في حاجة ماسة للدراسة الجادة المنهجية من قبل متخصصين في الظاهرة السياسية ، ولعل ما تم التوصل إليه حتى الآن وعبر دراسات علمية يدلل على أن تلك التجربة البديعة تحمل في طياتها أهم ما يميزها ألا وهو الأصالة المعاصرة .
ب ـ منطلق نموذج الدولة الرشيدة في المرجعيات الشرعية الإسلامية [ القرأن الكريم والسنة النبوية المشرفة ] : للدولة الرشيدة والمجتمع الرشيد والحياة الطيبة التي تسودهما أسسها ومرتكزاتها في المرجعيات الشرعية [ القرآن والسنة ] ، وتحقيق ذلك أن تلك المرجعيات التي هي تشريع الخالق لحياة خلقه وتشريع الرسول لدولة المسلمين تحوي في محكمها تفاصيل بل ودقائق أصول وقواعد تلك الدولة .
ت ـ منطلق متطلبات عناصر الوجود الإنساني : كذلك تنطلق هذه الدولة في مرتكزاتها وأهدافها من تحقيق متطلبات الوجود الإنساني كما أراده الله لبني الإنسان فقد ميز الخالق سبحانه بني آدم بالعقل والتفكير المنفصل عن التفكير الذي تحركه الغريزة لإشباع رغباتها ، فتفكير الإنسان فيه التأمل والتدبر ، فهو تفكير رشيد ، أما تفكير الدواب الأخرى فهو تفكير ميكانيكي تمليه رغبات إشباع الغرائز ، فالدواب تفكر وتحتال في ضروب التفكير ، ولكنها في كل ذلك مدفوعة برغبات إشباع الغرائز ، أما الإنسان فهو يفكر في ما في ذاته وفي ما حوله من دلائل وآيات مستفسراً ومستوضحاً عن كنهها وماهيتها .
وميزة العقل والتفكير الرشيد هذه ميزت الإنسان عن غيره من الدواب ، وجعلته مؤهلاً ومهيئاً لوظائف ومهام في هذا الكون تتلاءم مع تلك الميزة ، وبالرغم من تمتع كل بني آدم بتلك الميزة ، إلا أن القليل منهم هم الذين استفادوا منها فيما وجبت له وهو الاهتداء إلى الحق والفضيلة ، في حين خرج الكثير من بني الإنسان بميزة العقل والتفكير الرشيد عن غايتها المثلي ، فإما أن عُطّلت ، وإما أن وُجّهت وجهة مقصدها الباطل والرذيلة ، فالإنسان لا بد أن يُسأل عن استخدامه لتلك الميزة التي تميز بها وعن نتائج ذلك الاستخدام .
وتماهياً مع العقل الذي ميّز به الخالق الإنسان جاءت الدولة الرشيدة مرتكزة على نسق قيمي رفيع ومبادئ سامية ، فكانت نموذجاً للدولة التي يمكن للإنسان أن يعيش فيها ويتفاعل ويستمتع بآدميته .
ث ـ منطلق التوافق مع تطورات حياة الإنسان وفق الفطرة السوية والعقل الرشيد والسلوك القويم : لعله ينبغي أن تتفاعل عناصر حياة الإنسان ذي الفطرة السوية والعقل الرشيد والسلوك القويم في دولة تتسم بالرشد ، وهي مكافأة مستحقة وجزاء وفاق لذلك الإنسان ، ومن ثم تصبح الدولة الرشيدة متوافقة موضوعياً ومنهجياً مع الإنسان بطبيعته السوية .
ج ـ منطلق التماهي مع المنطق الثقافي الإسلامي بوصفه أهم عناصر الخصوصية الإسلامية : الدولة الرشيدة تستمد أيديولوجيتها من الثقافة الإسلامية ، ليس هذا فقط ، بل كل مرتكزاتها ، ومن شأن هذا التماهي أن يؤكد على أن الدولة الرشيدة هي إفراز طبيعي ونتاج عضوي للثقافة الإسلامية بثرائها وديناميتها ، وخصوصيتها في ذات الوقت .
ح ـ منطلق التماهي مع الذات الحضارية للإسلام بوصفه نمط التعاطي مع عناصر الوجود وفق خصوصية الإسلام : وتواصل الدولة الرشيدة التعبير باعتزاز عن صلتها العضوية بحضارة الإسلام ، فهي تجسيد تلك الحضارة وزهرتها ، ويصبح المسلمون بحق صناع الدولة الرشيدة ، وأجدر متحدث عنها وباسمها ، أليست الدولة الرشيدة والحال كذلك حرية بأن تكون ملكاً خالصاً للمسلمين فكرة وتجربة !
ثالثاً : أمارات الرشد في الدولة الرشيدة :
لم يسم المسلمون دولتهم بالرشد عبثاً أو افتراءً ، بل ثمة قسمات لتلك الدولة جعلتها خليقة بهذه السمة مستحقة لها دون مَنّ ، كما قدمت الحجة على ملكية المسلمين الخالصة لتلك الدولة قبل غيرهم ، ومن تلك الأمارات ما يلي :
أ ـ مثالية المنطلقات والغايات : أوضحنا منطلقات الدولة الرشيدة ، وبيّنا كم كانت مثالية ، ولكن علينا أن نضيف أن غايات تلك الدولة لم تكن أقل مثالية من منطلقاتها ، فغايات الدولة الرشيدة في الإسلام ، تتوزع على حياتين ، غاية الحياة الدنيا وهي الحياة الطيبة ، وغاية الحياة الآخرة وهي جنة الخلد ، قال تعالي ” من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ” [1].
ب ـ نسق قيمي فريد : القيم السياسية الإسلامية التي تنتظم في نسق خاص ، يعتمد عليها المنهاج الإسلامي أو النظام السياسي الإسلامي كأدوات لتحقيق أهداف الدولة الإسلامية ، وتتسم تلك القيم بجملة من الخصائص : أولاً : القيم السياسية الإسلامية ترتبط ببعضها ارتباطاً عضوياً ، مما يجعلها تبدو في كلٍ واحد أساسه وقواعده الشريعة الإسلامية ، ومحوره الأساسي المنهاج الإسلامي ، وهدفه الفضيلة والسمو العقلي والفكري والسلوكي ، ثانياً : الإسلام يضفي على القيم السياسية الخاصة به طابعاً خاصاً ، فهذه القيم إنما وجدت لتقويم السلوك الإنساني وتهذيبه ومواءمته مع الصورة المثلى الذي خططها الإسلام للمجتمع ، ثالثاً : القيم السياسية الإسلامية في جملتها بمثابة أدوات تهدف إلي تحقيق أهداف الدولة الإسلامية ، وقد فرضها الله سبحانه وتعالى وأمر ولي الأمر أن يقيمها وينشرها في المجتمع الإسلامي .
ت ـ جملة مبادئ بديعة : المبدأ السياسي أداة أو وسيلة أساسية تستخدمها جماعة إنسانية أو أمة من الأمم من أجل تحقيق القيمة السياسية ، فالمبدأ السياسي إذاً هو الممارسة الفعلية للسياسة والحكم ، والتعاطي الواقعي مع الظاهرة السياسية .
والمبدأ السياسي بهذا الوصف يختلف من جماعة إنسانية إلي أخري ، ومن أمة إلي أخري ، بالرغم من أن ذلك المبدأ المختلف عليه تتوسل به الجماعة وتتذرع به الأمة من أجل تحقيق القيمة الواحدة والمتفق علي كنهها وماهيتها ، فمبدأ الديمقراطية بأنماطه وأشكاله المتباينة هو أداة من أجل تحقيق قيم الحرية أو المساواة أو العدالة .
ومن ثم فقد بدت العلاقة واضحة بين المبدأ والقيمة والظاهرة السياسية ، فالأخيرة تحوي الإثنين معاً ، والمبدأ وسيلة تحقيق القيمة ، فالمبدأ صناعة إنسانية والقيمة هبة إلهية ضمن ناموس الكون وعناصر الوجود .
وإذا كانت الثقافة السياسية تهتم بشرح وتفسير وتوضيح القيم السياسية ، ثم ترسخها في الأذهان ، وتخلق حالة من الحماس الفكري والمسعى الحركي لتطبيق القيمة فإن الأمر يختلف بالنسبة للثقافة السياسية مع المبدأ السياسي ، فالثقافة السياسية قد تختلق المبدأ وتبلوره من شتات الموروثات الفكرية والثقافية الحضارية ، ثم تستزرعه في عقول الناس وأذهانهم ، وتواصل تكييفه وموائمته مع عقول الناس وأفكارهم حتى يقتنعوا به ويعتمدونه وسيلتهم من أجل تحقيق القيمة ، ومن ثم تهتم الثقافة السياسية بترسيخ المبدأ في عقول الناس وأذهانهم وكذا في سلوكاتهم .
وتنقسم المبادئ السياسية الإسلامية إلى مبادئ أساسية تشمل : مبدأ الشعب مصدر الشرعية السياسية ، ومبدأ التفكير والاعتقاد والتعبير ، ومبدأ تعدد الرؤى في إطار الثقافة الإسلامية ، ومبدأ الصدق ، ومبدأ الفاعلية وصون الأمة ، ومبدأ اختيار الحاكم ومبايعته ، ومبدأ لزوم الجماعة ، ومبدأ المبادرة ، ومبدأ المشاركة ، ومبدأ التناصح ، ومبادئ داعمة للمبادئ السياسية الإسلامية الأساسية وتشمل : مبدأ الجهاد ، ومبدأ الاجتهاد ، ومبدأ الأخذ بالأحسن ، ومبدأ الاعتدال والوسطية .
ث ـ تجربة تسمو نحو الترقي بحياة الإنسان : كذلك من أهم أمارات الرشد في الدولة الرشيدة وفق رؤية الإسلام أن هذه الدولة تحمل في وجودها وتفاعلها تجربة رائعة ورائدة تستهدف السمو يحياة الإنسان نحو الترقي ، ولم يثبت نظراً أو عملاً أن حددت الدولة المسلمة لنفسها هدفاً أقل مثالية من ذلك السمو .
ج ـ تحديد مشترك عام إنساني بامتياز : لعل أكثر أمارات الرشد لفتاً للانتباه في الدولة المسلمة هو قدرة تلك الدولة نظرياً واستعدادها واقعياً على تحويل ترابها إلى مشترك عام ، تتفاعل وتتعاطى فوقه كافة الكيانات والقوى الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية دون تمييز على أي أساس ، ومن ثم يتحول إقليم الدولة في الإسلام إلى ساحة عطاء لكل من يقيم على تلك الأرض حتى ولو كان وافداً ، وفي مقابل ذلك العطاء يتعين الاستحقاق ، وهكذا ضربت الدولة المسلمة أروع الأمثلة المبكرة في العالم المتمدن على المشترك العام الذي ولّد بالتالي مبدأ المواطنة ، ذلك المبدأ الذي احتضنته بدفء وصدق ثم فعّلته في براعة واقتدار تلك الدولة الرشيدة ، ولقد جاءت الحضارة الإسلامية خير شاهد على قدرة الدولة المسلمة على بسط مظلة المشترك العام فوق ترابها ، ثم ترسيخ مبدأ المواطنة بامتياز ، وتسفر تلك الحضارة العبقرية عن العناق بين المشترك العام والمواطنة ، حيث تصبح سلة عطاء تجمع كل ما لدى المواطنين من إبداع واجتهاد ، بغض الطرف عن الدين أو العرق أو الجنس .
